21 - 07 - 2025

في حضرة الكلمة الإلهية | تجليات الوحي في قوله تعالى: "فلا أقسم بمواقع النجوم"

في حضرة الكلمة الإلهية | تجليات الوحي في قوله تعالى:

في حلقة جديدة من "في حضرة الكلمة الإلهية"، نعيش لحظات إيمانية وعقلية مدهشة مع آية عظيمة من كتاب الله، من سورة الواقعة، حيث يتجلى الوحي القرآني في قَسَم إلهيٍّ يأسر القلوب ويوقظ العقول:

"فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ۝ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ" [الواقعة: 75-76]

أولًا: شرح الآية وتفسيرها

الآية جاءت في معرض تعظيم شأن القرآن الكريم، وبدأت بأسلوب مهيب: "فلا أقسم بمواقع النجوم"، وقد اختلف المفسرون في معنى "فلا أقسم"؛ فقال أكثرهم إنها أسلوب توكيد لا نفي، أي أن الله تعالى يُقْسِم فعلاً، ولكن بأسلوب يفيد التعظيم والتهويل، وهو ما يسميه البلاغيون بأسلوب "التهويل بالتعبير النافي". أما "مواقع النجوم"، فقد فُسِّرت بأنها: مواضعها في السماء حيث تنزل، أو تغرب، أو تموت وتنهار (ابن كثير، الطبري). أو مساراتها وثبوتها في مواقع محددة بحساب دقيق، وهي تعبير قرآني عجيب يلمح إلى أن الإنسان يرى ضوء النجوم لا مكانها الحقيقي، لأن النجوم تتحرك أو تفنى بينما يصل ضوؤها إلينا متأخرًا.

ثم يأتي الوحي ليقول: "وإنه لقسم لو تعلمون عظيم"، وفي هذا تعظيم مُضاعَف، كما قال الفخر الرازي، لأنه قسم بالله بأمر كونيٍّ عظيم لا يُدرك كنهه إلا من له علم بالسماء والنجوم، أي أن إدراك عظمة هذا القسم مرهون بالعلم والمعرفة.

ثانيًا: الإعجاز اللغوي

تتميز الآية بإعجاز لغوي دقيق:

التنكير في "مواقع" و"عظيم" يدل على التفخيم؛ فالمقصود ليس نجمًا بعينه، بل مطلق مواقع النجوم التي تحيّر الناظرين.

الفعل "أُقسم" مسبوقًا بـ"فلا" يعكس أسلوب التهويل والتفخيم، تمامًا كما قاله الزمخشري: "كأنه يقول: لا أُقسم وأيّ قسم!"

تقديم القسم على المقسَم عليه – وهو "القرآن الكريم" في الآيات التالية – أسلوب قرآني يعمّق وقْع القسم في النفس.

ثالثًا: الإعجاز العلمي

هنا تتجلى الآية في بُعدٍ علميٍّ مذهل، يجعلنا نزداد إيمانًا بعظمة القرآن:

علماء الفلك يؤكدون اليوم أن النجوم التي نراها ليلًا قد مات أغلبها منذ آلاف أو ملايين السنين، وأن ما نراه في السماء هو ضوء قديم، خرج من النجم منذ دهور، ولا يزال يسافر في الفضاء حتى يصل إلى عيوننا.

هذا ما يسمى بـ"الزمن الضوئي"، إذ أن الضوء يقطع في السنة الواحدة حوالي 9.46 تريليون كيلومتر، وقد يظل ضوء النجم في طريقه إلينا آلاف السنين بعد موته.

وهذا ما تنبّه إليه كثير من الباحثين المعاصرين، مثل الدكتور زغلول النجار، حين قال: "القرآن لم يقل (بالنجوم)، بل قال (بمواقع النجوم)، لأننا لا نرى النجم ذاته، بل موقعه فقط، وهذا سبق علمي مذهل في كتاب الله".

بل إن علماء مثل كارل ساغان وهابل أثبتوا عبر التلسكوبات العملاقة أن النجوم تنفجر في نهاية عمرها في أحداث كونية مهيبة تُعرف بـ"السوبرنوفا"، ورغم هذا الانفجار الهائل، فإن ضوءه لا يُرى على الأرض إلا بعد عشرات أو مئات السنوات. كل ذلك يُفسِّر الإشارة البليغة في القرآن إلى "مواقع النجوم"، لا النجوم نفسها.

رابعًا: فائدة قرآنية

إذا كانت مواقع النجوم – وهي بعيدة، خامدة، منهارة – جديرة بأن يُقسِم الله بها، فكيف لا نعظِّم نحن كلام الله الذي بين أيدينا، نورًا وهداية وشفاء؟

هذه الآية تُربينا على التوقير: توقير القرآن، توقير العلم، توقير النظر في السماء بعين الخشوع لا العبث.

لقد جاء القسم في هذا الموضع ليربطنا بالسماء، ويهزّنا لنتدبر في الأرض، ويعلمنا أن خلف كل آية من آيات الله سرًّا ينتظر أن يُكشف، وعبرةً لا تنقضي.

خاتمة

في "حضرة الكلمة الإلهية"، نقف على تخوم المجرة، لنشهد كيف يتلاقى العلم مع الوحي، وكيف يكشف الله لنا من خلال آية واحدة ما يذهل العقول.

هذا القسم الإلهي ليس مجرد بلاغة، بل حقيقة علمية، وروعة لغوية، وتربية إيمانية.

"وإنه لقسم لو تعلمون عظيم... إنه لقرآن كريم"
---------------------------
بقلم: خالد أحمد مصطفى

مقالات اخرى للكاتب

في حضرة الكلمة الإلهية | تجليات الوحي في قوله تعالى: